كنتُ على مكتبي في البنك ، منهمكاً في إجراء بعض العمليات ، و الساعة تُشير إلى الرابعة مساءً من يوم الاربعاء ١٤-٠٨-٢٠١٣ ، و كان زميلي الذي يركن إلى جانبي مشغولاً أيضاً بإجراء بعض العمليات لعميلٍ سوداني مألوف لدينا يتبع لإحدى الشركات. و قبل أن يُنهي هذا العميل ما جاء لأجله ، إذ ترك نافذة زميلي ، و تسمَّر عند نافذتي ، و بعد أنّ سلَّم عليّ و قدم التهاني بالعيد على جناح السرعة . قال : عارف صاحبك أسامة ؟!.. فأجبته و أنا في ذعر ينتظر الإجابة التي تسبق سؤالي : نعم.. ما به ؟!.. قال لي: توفى .. نزل عليّ الخبر نزول الصاعقة ، و مرّ في مخيلتي حينها شريطٌ سريعٌ يعرض الفترة التي عرفتُ فيها أسامة و المواقف التي جمعتني به ، و يردد في داخلي صوته و يرسم صورته و يعرض ضحكته.
أسامة جعفر شاب سوداني ثلاثيني أعزب ، دَمثٌ الخُلُق ، بَهيّ المُحيَّا ، سلس التعامل ، سخيُ و معطاء . معرفتي به مُمتدة لأكثر من ثلاث سنوات . تعرَّفتُ عليه عن طريق عملي في البنك ، و استمرَّت هذه العلاقة و نَمَت مع مرور الوقت بسبب كل ما يتحلّى به من سجايا و خصال ، فقد كان نعم الرجل رحمة الله عليه.
كان يحكي لي عن نيته لإستخراج تأشيرة "زيارة" لوالديه ، لأنه ينوي أن يعتمر معهما ، و بالفعل ، أبلغني عن مقدمهما للمملكة ، و كأنه أتى بهما كي يلقيان حتفيهما ، أو كأنه شَعَر بدنوّ أجله ، فأختار أن يعتمر معهما و من ثم يرحلون عن هذه الدنيا سويَّةً.
كان أسامة يقود السيارة بسرعةٍ فائقةٍ أثناء العودة من العمرة و زيارة المصطفى- صلى الله عليه و آله و سلّم- و كان معه في السيارة والديه ، و صديقه و زوجته و رضيعهما ، و قد تعرَّضوا لحادثٍ أليمٍ تسبب في إزهاق أرواحهم ، و لم ينجُ من الحادث سوى زوجة صديقه التي ترقد في العناية المُركّزة و رضيعها الذي لم يُصب بخدشٍ واحد للعناية الإلهية به.
رحلَ أسامة ، لكنه لم يرحل وحيداً ، بل رحلَ برفقة والديه ، و قد يكون ذلك لشدّة بره بهما ، فما لبِثَ أن اعتمر معهما و زاروا جميعاً أشرف الخلق حتى غادروا الدنيا و لسان حالهم يقول:" ما أجمل أن تكون تلك خواتيم أعمالنا " . رحلَ أسامة و أخذ معه صديقه ، و لم يترك له مجالاً كي يعيش على أطلال ذكرياته.
كان رحمه الله يعشق الأحجار الكريمة لأنه كريم نفس ، و قد كان يوصيني كثيراً بأن أجلب له عيناتٍ من باعة هذه الأحجار حال سفري للأحساء كي يختار بينها ، و كان يدفع دون أن يناقش في السعر ، بل كان يدفع في الحجر الكريم أكثر مما يستحق.
كنتُ كثير الإلحاح عليه في حياته بأن تزوّج و كوّن أسرة و استقر ، و عندما وصَلَت والدته إلى الرياض ، أبلغني أنها رشّحت لها فتاة سودانية مقيمة في الرياض . و بعد رحيله شعرتُ أنّ احجامه عن الزواج في الفترة الماضية قد يكون لحكمةٍ إلهيةٍ . حتى يرحل مع والديه دون أن يترك جرحاً غائراً لا يُرتق في قلب إمرأةٍ و أطفال.
آخر لقاء جمعني به رحمه الله كان في المكتب ، و كان يحمل في يده حينها جوّاله GALAXI S IIII ، و الذي اقتناه مؤخراً ، و كان حينها يستمع لمحاضرة على اليوتيوب ، فنصحته أن يستعين بسماعة الأذن كي يستمع للصوت بشكلٍ أوضح و تركيزٍ أعلى ، فلمح سماعتي على مكتبي ، فطلبها مني ، فلم أمانع ، و قال لي :" كم تريد فيها ؟" فقلت له :" هي لك دون ثمن " ، و لم يغادرني حتى التقط لي صورة بجوّاله ، ثم أرسلها إليّ بالواتساب.
عندما أتلقى نبأ وفاة شخصٍ أعرفه ، لا أعلم لِمَ أبادر بالإتصال على رقمه مباشرةً ؟! .. هل بحثاً عن الشك الذي قد يُبدِّد يقيني ؟! أم بحثاً عن اليقين الذي قد يقتل شكي ؟! أم محاولة لإيجاد رابط لو معنوي بهذا الراحل ؟! أم أن هناك رغبة في داخلي تقودني لأن تضجّ أسماعي و ترتعش روحي على نبرات التسجيل الصوتي القائل: " إن الهاتف المطلوب لا يمكن الإتصال به الآن " ، كي أكملها بألم :"و لن يمكن الإتصال به فيما بعد"؟! . هذا ما فعلته فعلاً عندما تلقيتُ نبأ وفاة المرحوم أسامة جعفر ، و بعدها فتحت الواتساب على رقمه ، و شاهدت تاريخ آخر ظهورٍ له و الذي لن يليه ظهور ، و قد كان في ١٠-٠٨-٢٠١٣ في الساعة ٢:٢٦ مساءً ، و من ثم عمدتُ إلى تكبير صورته المعروضة في الواتساب ، و كأنني أردتُ أن ألقي نظرة الوداع ، و أعدتُ قراءة رده على آخر مقال أرسلته عن طريق الواتساب ، و قد كتبَ فيه :" وفقك الله يا أخ رائد ، كلام رائع و إنسان جميل" ، و طبعاً كان وقع كلامه هذا مختلفاً بعد وفاته ، و أعدتُ النظر إلى بطاقة التهنئة بعيد الفطر التي أرسلها قبل قضاء نحبه ببضع أيام و قد كانت تحمل عبارة :" كل عام في بالي تمر .. عيد و غلا و وصال".. و كانت خانقة بحق.
في الختام ، أسأل الله أن يرحم أسامة و والديه و مَن رحلَ معه ، و يرحم موتانا و موتاكم و موتى المؤمنين و المؤمنات ، و رحم الله من قرأة المباركة الفاتحة و أهدى ثوابها لروح الفقيد أسامة جعفر.
اللهم أرحم اسامه ووالديه وصديقه وتقبلهم احسن القبول يارب العالمين ..
ردحذفجزاك الله خير استاذ رائد
فاسامة صديقي وتربطنا صلتي الرحم والصداقة .. رحم الله أسامة فقد كان بارا بوالدية وأسرته .. ويصلنا ويصل رحمه .. وكثيرا ما كان يحثني على ضرورة تبادل الزيارات وصلة أرحامنا ..
كنا عندما نجتمع فى المناسبات التى تخصنا وأهل مدينتا المغتربين فى الرياض أبجث دائما عن أسامة للجلوس بقربه وتبادل الحديث معه فقد كان رحمه الله لطيفا هاشا باشا يحب الطرفه وسرد القصص والحكاوي المضحكة عن طفولتنا ومواقفنا الطريفه وكان دائما ما يحكي لى يومياته فى العمل والمواقف التى يمر بها .. فقد كان رجلا استثنائيا لايتعامل مع الامور بطريقتنا انما بطريقته الخاصة وفلسفته التى كنا نراها غريبه بعض الشئ فقد كان صاحب بديهه حاضره وحيله واسعه فى مواجهه الاحداث اليومية التى يمر بها ..
لقد كان يوما عصيبا .. الذى حُمل فيه الينا نبأ الحادث الأليم ونعى فيه الناعي من فقدنا فى الحادث . حيث توافدت الجموع واحتشدت الحشود فى بريده - القصيم أتوا من الرياض ومن جده ومن مدن القصيم المختلفة ومن الشرقية ومن المدينة .. فقد هزهم هذا الفقد الكبير .. وهذا الحادث الأليم .. تجمعوا فى المستشفى يعزون بعضهم البعض .. ويواسون ويخففون المصاب على أخوان الفقيد وأهله وأخوان (صديقه وقريبه) واهله أيضا ... وكانت رحلة أسامه الأخيرة محمولا على الاكتاف حيث قُبر قى مقابر بريده وسط دموع ودعاء محبيه ومشيعيه الى مثواه الأخير .. وقبل صلاة العشاء بقليل ترحمنا على شهداء الحادث سائلين المولى عز وجل ان يغفر لهم ويرحمهم ويدخلهم جناته ارحم الراحمين ... وغادرنا بريده .. راجعين الى الرياض .. ولم يكن بيننا أسامه بجسده .. لكن سوف يظل باقيا معنا بما ترك فى دواخلنا من حسن معشر وذكريات طيبه .. وجرسا سوف يظل يرن دائما مذكرا لنا .. ان الحياة دقائق وثوان .. وان الموت أقرب الينا من حبل الوريد .. وان كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام .. نسأل الله أن يحسن خواتيمنا وان يغفر لنا ويرحمنا
وضاح عبدالرحمن
الرياض
26/08/2013
كل الشكر لك أستاذ وضاح على هذه الإضافة الرائعة للموضوع ، و فتقت الجرح الغائر مجدداً .
حذفرحم الله أسامة ، فقد كان مثلما ذكرنا فيه و أكثر ، فقد رحل و ترك عَبَق ذكرياته الجميلة و المؤلمة في نفس الوقت .
نسأل الله له الرحمة و المغفرة ، و الحشر مع الرسول الأمين ، و آله الطاهرين و صحبه المنتجبين ، و الشهداء و الصديقين .