الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

زمن التنّـتيف .. يا أحلى زمن !!



 [من الأرشيف]  - 21 نوفمبر، 2010


كل من لديه صديق أو قريب في إحدى الدول الخليجية المجاورة من ذوي الدخل المرتفع من المؤكد أنه دخل معه في مناقشة و مفاضلة و ملامسة الفروقات من حيث الدخل و المستوى المعيشي ، و في نهاية الأمر خرج بحسرته و غصته .
الفوارق ليست مادية فقط ، بل حتى خدمية ، فنجد الموظف الحكومي يمتلك تأمين طبي للعلاج له و لأسرته ، و تدفع له رسوم زوجية و رسوم على كل مولود ينجبه ، حتى يكون قدوم المولود بشرى سارة ، و ليس عبئاً ثقيلاً و وِزراً شديداً و بنداً مالياً جديداً يضاف لسلسلة البنود المالية القاصمة للظهر ، و يكون له نصيب جيد في اشعال ما تبقى من سواد في رأس أبوه شيباً .
 و له أيضاً الحق في إدخال أطفاله مدارس خاصة تدفع رسومها جهة عمله أو على الأقل تدفع جزئاً منها ، و بعض الدول تعفي مواطنيها من فواتير الخدمات كالغاز و الماء و الكهرباء و الهاتف ، و نحن لا زلنا نحارب على التثبيت و الترسيم الوظيفي هاربين من البنود و المسميات الوظيفية المتدنّـية . و ماذا بعد الترسيم و التثبيت يا وزاراتنا الموقرة ؟! راتب 3500 ريال و لن يتعدى سقف 7000 ريال ، و ماذا ستفعل الثلاثة آلاف و الأربعة و حتى العشرة في هذا الزمن الذي أسميه أنا زمن (( التنّـتيف )) ، فكلٌ يريد أن ينتّـف منك شيئاً كما الدجاجة التي يُنتّـف ريشها من كل حدٍ و صوب ، و في النهاية تُسلق أو تُشوى أو تقدم "بروست" حسب الرغبة ، فإن جلسنا في كوفي شوب من أجل ضبط المزاج بالموكا و الإسبريسو الإيطالي أتتنا من بعد احتسائه فواتيره كي تعكر ما رممه الطليان ، و إن عمرّنا رأس المعسل أو الشيشة ، حرقنا جمر الفواتير و لا نملك إلا أن نصرخ بكلمة : (( جمرررر )) طالبين العامل الذي يقوم بمباشرة الشيشة و الاهتمام بها كي ينعشها بمزيداً من الجمر و بالتالي تطلق الدخان الكثيف كي يعبر عما بصدورنا من آهات مكبوتة ، و إن تعشينا في مطعم من باب كسر روتين العشاء البيتي  وجدنا الفاتورة تحت طبق الحمص و قد وضعها لنا مقدم الطعام اللبناني من باب الذوق و حتى لا يُعَجّل علينا بنزول صاعقة فاتورته و التي سوف تكون في مفعولها أقوى من السفن أب في تخفيف ثقل العشاء ، و صرنا نتهرب من دخول المجمعات و المولات التجارية خوفاً من جلد سوط أصحاب الماركات ، و إن اكتفينا بالتمشي بالسيارة لا نسلّم من اشتعال لمبة البنزين الحمراء التي سوف تضيق ذرعاً إذا لم نغذيها  بالبنزين كما نغذي بطوننا و بطون عيالنا و لا أنسى غيار الزيت و السيفون و الفتلر الهوائي و (( الذي مِنّـو ))، و حتى إن أغلقنا على أنفسنا أبوابنا فلن نفلت من حبل الفواتير الذي كبّـل اليدين و الرجلين بل و أطبق على الأفواه من هاتف ثابت و جوّال و انترنت و كهرباء و مياه و سلة (( المقاضي )) الدورية أو الأرزاق ، و من لديه أطفال فدعائنا له واجب ، و حتى الزيارات العائلية لم تنقذنا من الفواتير ، فلا بد أن تحمل في يدك هدية (( حسب عُرف كل عائلة طبعاً )) ، و الراتب المسكين يعتصر ألماً و يبكي حسرةً مما ألمَّ به ، و أحياناً كثيرة يشكي همه لصديقه الصدوق الواقف دائماً في الضرَاء البطاقة الائتمانية طالباً العون و المساعدة ، و بما أن البطاقة الائتمانية عُرف عنها تلبية النداء بشكل عاجل و من خصالها النخوة في هذه المواقف ، فأكيد سوف تشتعل هممها معوضه عجز الراتب ، و الحسابة بتحسب يا حضرة البنك .

مشكلة أن الراتب اسمه معاش ، أي (( ما عاش )) و لن يعيش في ظل  مسرحية (( التنـّـتيف   )) و التي تُقام على شرف المواطن المسكين ، الذي ينتظر نزول الراتب آخر الشهر كي يشتم رائحته و من ثم يَهُمُّ لتقسيمه كما كعكة عيد الميلاد التي تكون جميلة في شكلها في بداية وصلوها لمقر الحفل ، و الكل من حولها يتسايل لعابه من أجل نيل حصته منها ، و يأتي صاحبها كي يقطعها أجزاءً مجزّئة ، كي ينال كل شخص من الوقوف جزءاً منها ، و هذا ما يجري بالضبط مع كل موظف عندما ينزل راتبه آخر الشهر ، فبمجرد وصول رسالة البنك على جواله معلنةً عن نزول الراتب في الحساب ، إلا و تختلط التعابير على مُحيَّاه ، ما بين ابتسامة السعادة بانتهاء شهر عمل مليء بالتعب و الكدح و قد كُلِل بنزول راتب قد يُنعش الصدور بعدما التهبت منذ منتصف الشهر أو قبل ذلك بنشوف الراتب و تراكم الأعباء ، و ما أن يتذكر أن هذا الراتب هو (( كعكة عيد الميلاد )) كما شبهناها سلفاً التي سوف تُقطّع و تُوَزَّع على الطابور المصطف من المطالبين ، إلا و تهب رياح الكآبة على وجهه مغيرة تعابير السعادة باستقبال الراتب ، إلى تعابير حزن لوداع الضيف العزيز الذي ما إن وصل بعد طول انتظار ، إلا و سرعان ما رحل تاركاً ورائه ألم و حسرة.
موضوعي هذا ليس سخطاً أو تذمراً ، نحن و لله الحمد في بلد خيرٍ و نعمةٍ يفتقدها الكثيرين في دول العالم ، لكن ليس عيباً أن نطرح عيوبنا على طاولة النقاش و نناقشها بجرأة بهدف الوصول إلى حلول ، و من أبرز المشاكل لدينا و التي تجعل الكثيرين منا غير قادرين على عملية التنظيم المالي هي بورصة الأسعار لدينا في السلع و الخدمات، فهي فعلاً بورصة بسبب الارتفاع و الانخفاض الغير مبرر ، و التجار عندنا يسيرون على رأي الفنان الكبير دريد لحام في شخصيته الشهيرة : غوار الطوشة (( كل مين إيدو إلوو )) ، فصار الشخص المستأجر يخاف أن يطرق عليه المالك الباب ، ليس خوفاً من دفع الإيجار ، بل خوفاً من أن يرفع عليه الإيجار .
كان الله في عون من راتبه 1500 و 2000 في هذا الزمن الموحش ، فلا أستطيع أن أتخيل كيف تمر بهم الليالي الظلماء و الأيام العتية ، و كيف يقتاتون و يكتسون و كيف ينامون و يضطجعون ،  و لكن برغم كل ما يعصف بنا ، يبقى لدينا رب اسمه الكريم ، فرحمة الله واسعة ، و أبواب رزقه مشرَّعة ، فقط علينا بالسعي و التحرك باتجاهات أخرى غير الراتب ، و كان الله في عوني و عونكم يا أحبائي .

بقلم / رائد علي البغلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق