أتذكر في بداية أحد الفصول الدراسية الجامعية ، إذ بدأت تتوافد علينا وجوه الدكاترة الجديدة ، منهم أبناء الجلدة السعودية و منهم العربية و منهم الأوربية ، و كالعادة ، و مع أول إطلالة لأي دكتور ، بدأنا في التخمين و التحليل حول شخصيته : قوية ، متوسطة ، ضعيفة .. تعامله : لطيف ، معتدل ، جاف .. أسلوبه خارج نطاق الدروس : جاداً أم مازحاً ، و الأهم من هذا و ذاك ، طريقة شرحه : مفهومة ، (( مشّي حالك )) ، غير مفهومة على الإطلاق !!
من ضمن الدكاترة الذين قرروهم علينا دكتور سعودي اسمه الدكتور حسام ، شاب و خريج جامعة أوروبية ، و منذ بداية دخول هذا الحسام علينا لم نستسغه و لم نتقبله بتاتاً ، و لمسنا فيه الحس الطاووسي ، و بدى عليه التكبُّر و التعظُّم ، و ما أزعجنا أكثر هذه التكشيرة التي لا تفارق محيّاه !! ما أتعس حظنا و ما أسوء طالعنا ، هل سنقضي مع هذا الشخص فصل دراسي بأكمله و في مادة حساسة ؟! سترك يا رب من الخفي . أيضاً نحن كشباب نحب الدكتور المرن الذي يبادلنا المزاح و الضحك خارج أوقات الشرح ، أو يلطّف الشرح ببعض التعليقات الفكاهية الخفيفة التي تضفي على الجو العام للمحاضرة الخفة و تزرع قبول الدرس في نفوس الطلبة ، لكن يبدو أن صاحبنا ليس من هذا النوع .
مرت الأيام و نحن نتحاشى أي صدام مع هذا الدكتور الذي كنا نتوقع منه أن يباغتنا بهجوم مفاجئ ينال أياً منّا مع أشبه فرصة قد تكون مواتية بالنسبة له لتأخير أو عدم حل واجب أو عدم مشاركة ، و كل طالب كان يتنصّل من هذا الاحتكاك تحاشياً من أن يكون هو الضحية الأولى الغير مذكاة التي نجرّب فيها أسلوب حسام التوبيخي عليه ، و في إحدى المحاضرات ، كان الدرس يحتوي على مصطلحاتٍ جديدة في اللغة الإنجليزية ، و سأل الدكتور : ما معنى كلمة :Crawl يا شباب ؟! ، ربما كان البعض يعرف معناها و البعض الآخر لا يعرف ، و لكن الأهم في الموضوع ، أن الدكتور طرح السؤال على طريقة (( أنا أسأل و أنا سوف أجيب )) ، و ما صعقنا هو طريقة تعريف الدكتور بالمفردة . فجأة ، و بدون سابق إنذار ، رأينا دكتورنا المتعجرف المتكبر النافش لريشه كما الطاووس ينزل و يحبو في القاعة الدراسية على يديه و ركبتيه لبعض الوقت ، و هو يرتدي ثياباً بيضاء سريعة الاتساخ ، يا للهول ، يا للصاعقة ، خيّم علينا الصمت الموحّد ، و كلنا جحضت عيوننا في هذه اللحظة و كادت أن تخرج من محاجرها ، الدكتور حسام يحبو في القاعة ، كل هذا من أجل إيصال لنا معلومة أن معنى كلمة : Crawl هو : يحبو !!
ألم يستطع الدكتور حسام أن يسأل عن معنى هذه المفردة و يجعل أحد الطلبة يجيب ؟؟ أو إذا كان يريد أن يجيب هو بنفسه أما كان قادراً أن يجيب بشكلٍ شفهي و يحمي نفسه من هذا الموقف الذي قد يختلف في تفسيره الكثيرين و ينقذ ثيابه البيضاء مما نالته ؟!.. ترى ماذا دفعه للإقدام على هذا التصرف ؟!..
من المؤكد هو إخلاصه الكبير و رغبته لإيصال معنى هذه المفردة بطريقة واضحة مهما كلفه الأمر ، فرأى أن ينحني و يتلقى الأرض بيديه حابياً في سبيل ايصال معلومة تحمل فائدة لهؤلاء الطلبة حتى لو كانت على طريقة شارلي شابلن ، إضافة إلى ذلك تواضع هذا الرجل الكبير الذي جعله يقوم بهذا التصرف دون أي تردد أو تفكير في كيفية تفسير هذا المنظر و ماهية النظرات التي حاصرته حينها ، فرفعه الله لتواضعه درجات ، و أصبح حديث الطلبة ، و أصبح الكل يُجلّه و يحترمه لأنه يمتلك هذه النفس الرائعة .
يجب ألا نتسرع في إطلاق الأحكام على الناس من باب التخمين ، أو من موقف أو موقفين أو حتى عشرة ، و يجب أن نأخذهم على أكثر من محمل ، فكثير من الأحكام اطلقت ظلماً على كثير من الأشخاص ، و في النهاية يتبين لنا أننا مجحفين كل الإجحاف مع هؤلاء .
شكراً من الأعماق دكتور حسام ، و آسف جداً لأنني قد أكون أسأت فهمك يوماً .. و من المستحيل أن أنسى هذا الموقف أو أنساك ما حييت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق