[ من الأرشيف ] - 31 مارس، 2011
هناك شخصيات كثيرة على مَرّ التاريخ الإسلامي ، كان لها الأثر – أياً كان نوعه – في تغيير مسارات الأمة فيما تلاها – أي هذه الشخصيات - من حقب و عصور ، و شخصية كشخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لا يمكن اختزالها في مقالٍ صغير ، أو كتبٍ أو حتى مجلدات ، و لا يمكن أن تحصيها الأرقام و الحسابات ، ففي تصوري أن اختيار هذه الشخصية العظيمة للحديث و الكتابة عنها هو بحد ذاته أزمة صعبة الخروج لأي كاتب ، فمن أين تبدأ يا كاتب و إلى أين تنتهي ؟!.. فقد اخترت الغوص في المحيط العميق الذي لا قرار له ، و قد اخترت الدخول لمدينة العلم التي لا نهاية لها .
هو أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ، إبن عم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ، و أول من آمن برسالته و اعتنق دينه و صلى معه .
* ولادة الإمام علي :
ولد عليه السلام بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة ولم يولد في البيت الحرام سواه قبله ولا بعده وهي فضيلة خصه الله بها إجلالاًله واعلاءً لرتبته وإظهاراً لتكرمته . و هو أول هاشمي يولد مرتين ( أي من أبٍ و أمٍ هاشميين ) ، فأبوه أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ، و أمه فاطمة بنت أسد بنت هاشم بن عبد مناف .
* علمه و مناقبه :
استحالة أن تقرأ في أي علمٍ و لا تجد علياً متربِّعاً فيه ، ففي الطب و الهندسة و الرياضيات ، و المحاسبة و الاقتصاد و علم النفس و الاجتماع و الفيزياء و الفلك و الأدب و البلاغة و النحو ، و الكثير الكثير من العلوم التي لا حصر لها ، فالإمام علي عليه السلام أضاف للعلوم و ليس العكس .
هو أفضل هذه الأمة مناقباً و إخلاصاً و عقيدة و تديناً و جهاداً ، فلولا سيف علي الذي عرفه كل العرب لما قامت قائمة لهذا الدين ، فقد جاهد مع رسول الله في كل غزواته ما عدا غزوة تبوك ، و كان تخلفه عنها بأمرٍ من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، و قد كان الدرع الواقي للرسول ، و كان يذبُّ عنه في المعارك ، و في معركة أحد الشهيرة عندما انتصر المسلمون و أرادوا النزول من على الجبل للفوز بالغنائم و نهاهم رسول الله عن ذلك و لم ينتهوا ، فعاد الكفار من خلف الجبل بقيادة خالد بن الوليد كي يقلبوا الطاولة على المسلمين و يغيروا مسار المعركة من هزيمة و خذلان إلى عزة و انتصار ، حينها لاذ من لاذ بالفرار من المسلمين و لم يتبقى مع رسول الله الا علياً الذي كان يحامي عنه ، حينها جُرِح الرسول الأكرم في وجهه الكريم و كُسِرت رباعيته ، و بودي هنا أن أستشهد بهذه الأبيات للشاعر مصطفى فقيه الذي وصف ها هنا حال الصحابة في أحد :
ويوم أحد عرى اشياخهم هربا *** عافوا الجهاد وقالوا ربنا الهربُ
ركبوا النياق خلافا هكذا فعلُ ***ان العروبة في مفهومهم هربُ
اذا رأيت عقالا من عروبتهم *** ما عدت تعرف اين الرأس والذنبُ
للإمام علي مناقبٌ كثيرة ، و من أشهرها و أبرزها الشجاعة و الفروسية و التي لا يختلف عليها إتنان عاقلان ، و لا يستطيع نكرانها حتى أَلّدَ أعداءه ، فكان المبادر للبراز في حين تخاذل و خوف الكثيرين ، و من ضمن المواقف البطولية لأبا الحسن ، و التي أبت شمسها أن تغيب خروجه لعمرو بن ود العامري ليث العرب آنذاك و فارسها الهمام ، فعندما حفر المسلمون الخندق ، تمكن بعد ذلك مجموعة من جيوش المشركين من تخطيه ، و من ضمنهم هذا العمرو ، فأخذ يصول و يجول بفرسه ، و يختال تفاخراً و غروراً ، و يصيح في المسلمين : هل من مبارز ؟!.. فلم يجيبه أحداً خشية هذا الفارس الذي لا يُشق له غبار ، فلما يأس البروز ، أطلق هذه الأبيات :
ولقد بححت من النداء ** بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجاع ** بموقف البطل المناجز
إنّي كذلك لم أزل ** متسرّعاً نحو الهزاهز
إنّ الشجاعة والسماحة ** في الفتى خير الغرائز
فقال الإمام علي عليه السلام : " أنا له يا رسول الله " ، فقال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم خشيةً على الإمام علي : " اجلس إنه عمرو " ، فقال الإمام علي : " و إن كان عمرو " ، فأذن له الرسول الكريم و أعطاه سيفه ذو الفقار و ألبسه درعه و عممه بعمامته ، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : " قد برز الإيمان كله للكفر كله " ((شرح نهج البلاغة 13/261، ينابيع المودّة 1/281)) ، فصاح الإمام :
لا تعجلنّ فقد أتاك ** مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة ** والصبر منجي كلّ فائز
إنّي لأرجو أن أقيم ** عليك نائحة الجنائز
من ضربةٍ نجلاء يبقى ** ذكرها عند الهزاهز.
فنزل عمرو من على صهوةِ جواده فعقره ، فقاتله الإمام علي بقوة بأسٍ و رباطة جأش و أرجاه صريعاً ، فاشتعلت نوبة من صيحات التهليل و التكبير لهذا النصر .
* إنسانية الإمام علي :
هي نقطة في بحر مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ، فإليكم هذا المشهد ، فعند نزول عمرو بن ود من على ظهر جواده ، شرع في قطع رجليه الأماميتين – أي الجواد - ظناً منه أنه بهذا التصرف سوف يرهب الإمام علي و يجعل الرعب يدُبُّ في قلبه ، و ما عرف من يكون مبارزه ، و ما أن بدأ الإمام قتال هذا الكافر الا و تعمّد قطع رجله ، مخلاً بذلك توازنه ، فسقط أرضاً منكسراً مذلولاً أمام قومه الذين كانوا يعوّلون عليه الكثير ، فقال له الأمام : قطعت رجلك كي تشعر بالألم الذي يشعر به فرسٌ مقطوع القوائم ، ما هذه التدفق الإنساني العظيم يا أبا الحسن ؟!
* الحلم و كظم الغيض :
لا يوجد في عالم الحلم مثل أمير المؤمنين عليه السلام ، و أعود كي أستشهد بهذا الموقف بالرجوع لمبارزته لعمرو بن ودٍ العامري ، عندما هوى عمرو على الأرض بعدما قطع الإمام ساقه ، بصق هذا اللعين في وجه الإمام محاولاً استفزازه بالتعجيل عليه و قتله لكي يخلصه من هذا العار الذي وقع فيه أمام قومه ، فلم يستجب الإمام لاستفزازه ، و رأى الإمام أنه لو بادر بقتله لحظتها فإنه يكون قد قدَّم رضاه على رضا الله ، و اختار أن يتمشى على قدميه لبضع خطوات كي يهدأ واستغفر الله ، و عاد كي ينفذ فيه أمره لله و على اسم الله . أيضاً عندما كان الإمام يخطب إحدى خطبه في مسجد الكوفة ، إذ خرج عليه أحدهم قائلاً : ما أبلغك يا علي و لكن ما أكفرك ، فأستل أصحاب الإمام سيوفهم لقتله ، فمنعهم الإمام و قال : (( مهلكم .. مهلكم .. إنما هي سبٌ بسب ، أو عفوٌ عن ذنب ، وأنا عفوت عنه )) .. طبعاً لو لم يَأمَن هذا الخارج على الإمام العقوبة لما أساء الأدب ، و لولا يقينه أن عهد الإمام كان عهد الحرية و الديمقراطية و العفو و التسامح لما تجرأ و تفوَّه بما قاله .
* الاقتصاد في عهد الإمام علي :
في مجال التنمية الاقتصادية ، و سد باب حاجات الناس ، نجد نصاً موثقاً في الكثير من المصادر التاريخية أن علياً خاطب أهل الكوفة قائلاً: (ما أصبح في الكوفة أحد إلا ناعماً – أي مُرفَّهاً - ، وإن أدناهم منزلة ليأكل من البر، ويجلس في الظل - له مسكن - ، ويشرب من ماء الفرات) ، ففي عهد الإمام ودّع الناس الفقر و الجوع اذي عانوه في عهد من سبقه ، و أصبح أدناهم مرتبة يأكل البر و يشرب من ماء الفرات و يجد له مسكناً . و الكوفة في ذلك الوقت كانت ذات كثافة سكانية عالية جداً ، و تنوع في الأعراق ، و يقطنها أناسٌ من مختلف الأمصار ، فيها عربٌ من مختلف القبائل ، و فيها موالي أي عجم ، و فيها العسكريون و المدنيون ، و فيه مزيج من التوجهات و الأفكار ، و فيها من كان يحب الإمام ، و فيها من كان يناوئه.
* السياسة في عهد الإمام علي :
في مجال التنمية السياسية ، كان أمير المؤمنين عليه السلام يُشجّع الناس على الإدلاء بآرائهم جهاراً ، و ألا يخشوا الاعتراض في وجه الحاكم حين خطأه ، و ألا يتعاملوا مع الحاكم بمنطق التملّق و التزلّف يقول :(فَلا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، ولا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ-أي عند أهل الغضب- ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ -أي بالمجاملة- ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي).
و كان عليه السلام يحمل قلقاً و هماً لاحتمال وجود فقراً في المناطق البعيدة عن مقر خلافته .
* عدل الإمام علي بين كافة الناس بمختلف أديانهم و طوائفهم و أعراقهم :
لم يكن يُميّز الإمام بين مسلم أو يهودي أو نصراني في فترة خلافته ، بل كان جُل همه توفير الحياة الكريمة للناس بمختلف أديانهم و طوائفهم ، و ما سيأتي دليلاً على ذلك :
مرَّ شيخٌ مكفوف كبير يسأل - أي يتسوّل - ، فقال أمير المؤمنين ما هذا؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني!.
فقال أمير المؤمنين : استعملتموه، حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال .
حيث يؤكد الإمام في فقرات هذا العهد على تطبيق العدل والمساواة بين المواطنين، وحفظ حقوقهم المادية والمعنوية، وإن اختلفت أديانهم وتوجهاتهم، يقول : (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ، ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).
* التنمية البشرية في عهد الإمام علي :
كان للإمام عليه السلام ثلاث توجهات رئيسية ، و هي :
1- استنهاض الإنسان ليقوم بأدواره الأساسية في الحياة على أكمل وجه ، و إثارة دافع الطموح بداخله ليفجر طاقاته الكامنة و يصبح فرداً فعالاً في مجتمعه .
2- حث الناس على التعاون فيما بينهم ، و انتهاج العمل الخيري التطوعي الذي يجعل الإنسان يشعر بهموم و آلام غيره .
3- وضع سياسة الدولة في خدمة التنمية، وهذا ما تؤكده سيرة الإمام مع الشعب، وتوجيهاته للولاة والموظفين، ومن أبرزها واشملها عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر عندما أوصاه أن يكون محباً للرعية ، محترماً لمشاعر الناس من أي فئةٍ كانوا ، سواءً كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى .
* زهد الإمام علي :
فقد كان الزهد من أبرز معالم هذه الشخصية ، و أوضح سماتها ، فقد زهد كل ملذات الحياة و طلّق زينتها ، و عاش عيشة الفقراء و أهل المتربة من رعيَّته ، و زهد في المال و السلطان و كل ما يطمع به الطامعون ، و كان يأكل خبز الشعير قبل ولايته و بعدها ، و كانت تُجبى الأموال إلى خزانة الدولة الّتي يضطلّع بقيادتها من شرق الأرض وغربها . وكان يلبس أبسط أنواع الثياب ، وثمن قميصه ثلاثة دراهم .
وبقي ملتزماً بخطه في الزُّهد طوال حياته ، فقد رفض أن يسكن القصر الّذي كان مُعدّاً له في الكوفة ، حِرْصاً منهُ على التأسِّي بالمساكين .
يقول (ولَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، ولُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، ونَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأطْعِمَةِ ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، ولا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ)
* وفاة الإمام علي :
لما تواعد ابن ملجم - عليه لعنة الله وملائكته وخلقه - وصاحباه على قتل علي عليه السلام ومعاوية وعمرو بن العاص ، دخل ابن ملجم المسجد في بزوغ الفجر الأول فدخل الصلاة تطوعاً و افتتح القراءة فأقبل علي عليه السلام وبيده مخفقة وهو يوقظ الناس للصلاة فمر بابن ملجم لعنه الله ودخل الصلاة فتبعه ابن ملجم لعنه الله فضربه على هامة رأسه ، و وقع السيف منه فجعل الامام يقول: أيها الناس احذروا السيف فإنه مسموم فمات روحي وروح العالمين له الفداء من تلك الضربة بعد ليلتين ولما ضُرِب عليه السلام قال: " فزتُ ورب الكعبة ".. فزتَ و أيما فوز يا علي ، هنيئاً لك .
* ظلم الإمام علي :
في الوقت الذي أُجحِف فيه الإمام علي و ظُلم من أمَّته ( دون التطرق لأنواع الظلم الكثيرة التي تعرض لها الإمام منذ بداية حياته و حتى لحظة اغتياله و التي يطول شرحها )، نجد أن تم إنصافه نسبياً من الغرب الغير مسلمين ، حيث دعت الأمم المتحدة في تقريرها السنوي لعام 2002م الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم الدول العربية إلى اتخاذ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام مثالاً لتشجيع المعرفةوتأسيس الدولة على مبادئ العدالة.
بقي الكثير و الكثير كي نكتبه يا علي ، فلم نغطّي و لو مثقال ذرةٍ من سيرتك العطرة و إنجازاتك الخالدة و مناقبك و صفاتك المُبَجَّلة ، لكن غصَّت الصحف ، و جفت المحابر ، و أزف الوقت و لم ننتهي ، فنحتاج للكثير من كل شيء حتى نغطي ما فيك من كل شيء ، و لن نفلح ، و بقي أن أطرح تساؤلاً :
إذا كانت البداية في جوف الكعبة ، و النهاية في سجدة المحراب ، ترى هل ستتمكن عقولنا من استيعاب ما تلك السيرة العظيمة بين هذه البداية و تلك النهاية ؟! فما نقول في رجلٍ أخفى فضائله محبيه خوفاً ، و أعداؤه بغضاً و وصلنا ما ملأ بين الخافقين ؟!
تنويه : تمت الإستعانة ببعض المراجع و مواقع الإنترنت لإتمام هذا الموضوع و ظهوره بهذا الشكل ، و من باب الأمانة الأدبية و العلمية وجب التنويه .